حين أنجبت إبنتي الأولى كانت فرحة أمي بها ليس لها حد، بل أكاد أجزم أني لم أرها على تلك الحالة من السعادة من قبل، ولعل ذلك يرجع إلى أني كنت وحيدة والديّ، وكنت قد تزوجت من أحد أقاربي ورحب أبواي بزواجي المبكر، فلم أكن قد إنتهيت من دراستي الجامعية بعد، مما أتاح لهما تنفيذ رغبتهما في أن نقيم معهما في بيت العائلة، فكان أمرا طبيعيا أن أبقى معهما حتى أنتهي من دراستي، حتى لا تثقلني المهام الزوجية والمنزلية.
ولم يمضِ على زواجي إلا عام وإذا بهبة الله تحملها أمي بين ذراعيها لتنطلق السعادة من قلبها وترسم السرور على وجهها.
كانت الأيام تمر بسلام وسعادة، وحازت مولودتي غالب إهتمام جدتها، وتفرغت أنا لإتمام دراستي والتمتع بحياتي الزوجية، وأحاطنا والداي بالرعاية والمسارعة في تلبية الرغبات.
كان زوجي نعم الابن لهما، وظننت أن سعادة الدنيا كلها بين يدي، ولكن سرعان ما توفيَّ والدي وخيم الحزن علينا، وصاحب ذلك إزدياد التعلق بين أمي وحفيدتها، ولا أنكر أن ذلك كان يسعدني وزوجي كثيرا، فأمي نبع حنان وتتصرف بعقل وحكمة وتبث في إبنتي قواعد الدين بسلاسة وقدرة فائقة.
وبمجرد أن أنهيت دراستي منَّ الله عليَّ بمولود جديد، وأحسست وكأني أنجب لأول مرة، وبدأت أمارس كل مسؤوليات الأمومة بلهفة وحب، ولم يمر وقت طويل إلا وقد رزقنا الله بمولود ثالث، وبدأت مسؤولياتي تزيد، ومع إزدياد تلك المسؤوليات كنت أشعر براحة كبيرة وطمأنينة لإهتمام ابنتي الكبرى بجدتها رغم سنواتها العشر، وكلما تفقدتهما أحسست أنهما إستطاعتا أن تصبحا صديقتين، تنهل كل منهما من عطايا الأخرى.
وتغيرت بعض الأوضاع وأصبح لزاما أن نستقل أنا وزوجي وأبنائي في منزل لنا، وحاولنا أن يكون منزلا واسعا لتقيم أمي معنا فيه، ولكنها أبت أن تترك مكانها وقد وفقنا الله في الحصول على منزل قريب منها، وظلت إبنتي تقيم معها وكنا نمثل لها المنزل الذي تأتي لزيارته وتسارع بالعودة لحضنها الدافىء.. جدتها.
وحين وصلت إبنتي للمرحلة الجامعية وكانت قد إختارت إحدى الكليات العملية أصُيبت أمي بمرض أقعدها في الفراش وأصبح لزاما أن تقيم معنا وأحاطها الجميع بالعناية اللازمة، إلا أن أكثر ما أزعجني أن إبنتي كانت دائما تشعر بأنها غريبة عنا، وكأن هناك حاجز بينها وبيننا، ولذلك سرعان ما تزوجت وأرادت أن تأخذ أمي لتقيم معها، ولكن زوجها سافر في بعثة إلى الخارج وكان لابد لها أن تسافر معه.
وتدهورت حالة أمي وحان وقت الرحيل وفي لحظات الفراق إشتاقت لرؤية الحفيدة، ولكنها لفظت أنفاسها الأخيرة قبل وصول إبنتي، وأثناء إنتظاري لعودتها أخذت الأسئلة تتصارع في عقلي.. كيف أواسيها؟.. كيف أعينها على الصبر؟.. كيف ستتجاوز تلك المحنة؟..
ثم وجدتني أسأل نفسي: أتراني أخطأت بعزل إبنتي عنّي إلى هذا الحد؟.. وتفقدت حالي وأبنائي كلٌ قد أصبح له حياته الخاصة، وبقيت مع زوجي نحاول أن نستثمر بقية العمر في مرضاة الله.
وحضرت إبنتي والدموع تملؤ عينيها، ونظراتها حائرة.. حاولت ان أضمها إلى حضني فاذا بها تبتسم لي وتضع مولودتها بين يدي، وتطلب مني أن أتعهدها لكثرة مشاغلها، فقبلتها وأعدتها إليها قائلة: حضنك أوسع وأحق لها.
الكاتب: تهاني الشروني.
المصدر: موقع رسالة المرأة.